3- ذات الله سبحانه وتعالى:
إن الحواس الخمس (السمع، والبصر، اللمس، والذوق، والشم) التي هي نوافذ إلى خارج كيان الإنسان محدودة في قدرتها وفي مجالات عملها.
فالعين مثلاً لا ترى إلا ألوان الطيف السبعة، أما الأشعة فوق البنفسجية وتحت الحمراء، والالكترونيات والقوة المغناطسية فلا تستطيع العين رؤيتها.
وقد تسحر العين أو تخدع كأن ترى الشمس كقرص الخبز والحقيقة أنها أكثر من الأرصاد: (1.305.000) مرة، أو ترى العصا في حوض الماء مكسورة عند سطح الانفصال، أو ترى المنازل من الطائرة كعلب السجائر، فلذا نجد عمل العين واضح محدود.
وكذلك الأذن لا تستطيع أن تسمع أصواتاً كثيرة موجودة لأن لها عملاً محدوداً لا يمكن تجاوزه.
والأنف وهو جهاز يعرف به روائح المواد ذات الرائحة ويبطل عمله إذا أصيب بزكام وحدود عمله ضيقة جداً إذ أن قدرته على الشم لا تتجاوز بضعة أمتار.
واللسان آلة لتمييز طعم المواد المختلفة وحدود عمل اللسان ضيقة جداً فتمييزه للطعم محصور في نطاق ما لامس اللسان شرط أن يذوب في اللعاب.
والجلد آلة حس لما يقع على الجسم من أشياء يقدر على الإحساس بها فيميز بين الناعم منها والخشن والصقيل والخفيف والحاد وغير الحاد والحار والبارد، وهو لا يدرك من الأشياء إلا ما كان له ثقل معلوم فهو لا يحس الجراثيم أو الكائنات الدقيقة أو الضوء أو الأمواج الإشعاعية كأمواج الراديو واللاسلكي، وحدود عمل الجلد ضيقة جداً تحد بحدود الجسم.
وقوة التصور وهي مصدر الخيال الواسع، فالإنسان يركِّب ويحلل ما جاء من الحواس الخمس في صورة جديدة مبتكرة، ولا يمكن تصديق ما تأتي به قوة التصور إلا بعد فحصه جيداً أمام العقل ومعظم الأوهام الباطلة التي تتحكم في حياة الإنسان تنبع من تصورات خاطئة، ولكن قوة التصور محدودة في قدرتها ومجالات عملها لأنها محدودة بالحواس الخمس.
والعقل الذي هو آلة ليميز الإنسان الحق من الباطل، فالعقل هو القاضي الذي تعرض عليه كل المعلومات القادمة من الحواس الخمسة ومن قوة التصور فيفصل أمرها، وقد يقع العقل في الخطأ ولكن لا من ذاته ولكن بسبب تغرير به أثناء عرض المعلومات، كأن تقدم له معلومات خاطئة أو ناقصة أو مشوهة، فتأتي أحكامه ناقصة مغلوطة مشوهة، فالخطأ جاء من مؤثرات خارجية، فالعقل هو الأساس لمعرفة الحقائق الثابتة في الكون.
والعقل له حدود فإذا علمنا أن الحواس الخمس محدودة وقوة التصور كذلك، والإنسان لا يعلم شيئاً إلا ما جاء بواسطة هذه الحواس الخمس التي هي نوافذه المفتوحة إلى خارج كيان الإنسان. فالعقل يستطيع أن يثبت الكثير من الحقائق الثابتة التي لا ترد من خلال الوسائل المؤثرة له.
ولكن مجال العقل محدود في كثير من الأمور، فالعقل عاجز عن إدراك كيفية عمله: كيف يفهم؟ وكيف يميز؟ وكيف يعقل؟.
العقل يعجز عن الإحاطة بكثير من الأمور في هذا الكون فمثلاً: هو يعجز عن الإحاطة بأكبر عدد فإذا سألته ما هو أكبر عدد؟ أجاب: أكبر عدد ما لا نهاية.
كما يعجز عن إدراك بداية الزمان أو أن يحيط بنهايته وكذلك يعجز عن إدراك نهاية المكان.
والعقل يعرف أن أحداثاً ستقع غداً، ولكنه يعجز عن إدراكها ومعرفتها مع أنها كائنة لا محالة ومع أن بعض الرؤى المنامية تتفوق على العقل في هذا الباب فتعرف ما سيكون غداً فيأتي كما رأت أو قريباً منه.
والعقل يعجز عن معرفة ما سيحدث لنا بعد موتنا بثوانٍ وصدق الله الذي يقول في كتابه العزيز: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255].
فإذا أدرك الإنسان قصور الحواس الخمس وقوة التصور والعقل، أدرك سخف الذين تطلب إليهم الإيمان بالله فيقولون: أرنا الله!! وحواسهم عاجزة قاصرة.
ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله" رواه البيهقي بإسناد جيد.
فإن المنع في التفكر بذات الله ليس حَجْراً على الفكر ولا جموداً في البحث ولا تضييقاً على العقل ولكن عصمة له من التردي في مهاوي الضلالة، إبعاداً له عن معالجة أبحاث لم تتوافر وسائلها.
ولنضرب مثلاً لتوضيح المسألة:
خلق الله للإنسان قوة يتصور بها الأشياء تعينه على تنظيم الأمور وتخيلها ولكن قوة التصور ضعيفة ومحدودة فإذا وصفت لك مدينة، عقلت أن فيها أشياء وتصورت تلك الأشياء ولكنك إذا رأيت تلك المدينة ستجد أنها على غير الصورة التي تصورتها من قبل.
وإذا طرق شخص الباب استطعت أن تعقل أن طارقاً يطرق الباب، ولكن تصورك يعجز أن يتصور، من الطارق حقيقة؟ وما طوله؟ وما عرضه؟ وما لونه؟ وما حجمه؟ فقوة العقل اخترقت حاجز الباب فعقلت أن طارقاً موجود يطرق الباب فقط بينما عجزت قوة التصور، وحَبَسَها حاجزُ البابِ أن تنفذ إلى هوية الطارق.
- ولله المثل الأعلى - فالعقل يؤمن بوجود الله الخالق سبحانه، وقوة التصور تعجز عن تصور ذات الله سبحانه لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].